موكب عبد الله الرضيع
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

موكب عبد الله الرضيع


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الحبل

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
الولائية

الولائية


المساهمات : 28
تاريخ التسجيل : 14/05/2008

الحبل Empty
مُساهمةموضوع: الحبل   الحبل Icon_minitimeالإثنين يونيو 02, 2008 9:39 pm

للروائي: جي ديموباسان


أقبل الفلاحون في يوم السوق مع زوجاتهم علي الطرق الكثيرة المنتشرة حول بلدة جودرفيل قاصدين المدينة. وقد احتشد الجميع واختلطت القبعات العالية التي يلبسها الأغنياء منهم بقرون الماشية، وبما تحمله القرويات فوق رؤوسهن، وكانت الأصوات المنبعثة من هنا وهناك تثير ضجة متواصلة، كان يعلو فوقها بين حين وآخر خوار بقرة أو قهقهة مدوية من ريفي قوي الصدر.





وكان السيد هوشكورن - وهو من أهالي بلدة بروتييه - في طريقه الي الميدان عندما لمح علي الأرض قطعة حبل صغيرة. وكان الرجل علي جانب كبير من الحرص ككل نورماندي صميم، يري أن كل ما يفيد يجب أن يلتقط فقد ينتفع به، فأحني قامته في جهد ظاهر، علي الرغم مما كان يشكوه من آلام الروماتيزم، وأخذ يلف قطعة الحبل في تؤدة وعناية. ثم وقعت عيناه في تلك اللحظة علي السيد مالاندان صانع السروج واقفاً بباب حانوته وهو يحدجه بنظراته.
كان بين مالاندان و هو شكورن خلاف قديم، إذ كان الرجلان قد تنازعا ذات مرة من أجل رسن، ولأنهما كانا حقودين فقد استحكمت العداوة بينهما منذ ذلك الحين. وأحس السيد هو شكورن بشيء من الخجل حين رآه عدوه يأخذ قطعة من الحبل من الأرض الملوثة بالأقذار، فأسرع بإخفائها تحت سترته، ثم دسها في جيب بنطلونه ، وأخذ يتظاهر بأنه لا يزال يبحث في الأرض عن شيء لم يعثر عليه بعد. ومضت لحظة قصد بعدها الي السوق، ورأسه الي الأمام وظهره مقوس من الألم، وسرعان ما غاب في الجمع الصاخب المحتشد، وشغلته مناقشات ومساومات لا تكاد تنتهي!.
وكان الفلاحون يفحصون الأبقار، وينصرفون عنها، ثم يرتدون إليها وقد استولت عليهم الحيرة، وامتلأت نفوسهم بالخوف من أن يصيبهم الغبن، فكانوا نهباً للتردد لا يجسرون علي البت في الأمر، يرقبون الباعة، ويحاولون جهدهم ان يهتدوا الي حيلهم أو الي عيب فيما يريدون شراءه من الدواب. وكانت النساء قد وضعن ما يحملن من السلال الكبيرة عند أقدامهن، وأخرجن الدجاج وألقينه علي الأرض موثوق الأرجل، قرمزي الأعراف، يطل الفزع من عيونه.
وكان طلاب الدجاج يعرضون علي الفلاحات أثماناً بخسة فيأبين إلا ما ذكرن لهم من أثمان، وقد شاعت في ملامحهن الصلابة، وبدت وجهوهن خالية من كل انفعال. وقد يحدث فجأة أن تقبل إحداهن الخفض المقترح، فتصيح بطالب الشراء، الذي يكون قد هم بالإنصراف علي مهل: حسنا يا سيد أنتيم .. سأعطيك إياه بما ذكرت.
ثم أخذ الميدان يخلو شيئاً فشيئاً، ودق ناقوس الظهر، فذهب الذين قدموا منهم من أماكن بعيدة الي حانات البلدة ومطاعمها وكانت صالة الطعام الكبيرة في مطعم جوردان غاصة بالناس، كما كان الفناء الرحب يزخر بالمركبات من كل نوع، وقد استقر لونها من تلوثها بالأقذار، وبدا بعضها و عريشه مرفوع الي السماء كالذراعين، وبعضها الآخر قد استقر عريشه علي الأرض، وكان بالمطعم موقد كبير، قد استعرت ناره وانبعث منها الدفء في ظهور الجالسين حوله. وكانت هناك ثلاثة سفافيد تدور علي الحاضرين مثقلة بالدجاج والحمام وأفخاذ الضأن، بينما كانت الرائحة الشهية المنبعثة من المرق والشواء فوق الموقد تداعب الأنوف، فتضاعف المرح وسال اللعاب، وقد جلس رواد المطعم ينتظرون الأطباق الشهية التي كانت لا تنفك تقبل عليهم مملوءة وترتد عنهم فارغة، وهم يتبادلون الحديث بصوت مرتفع، أو يتحدث الواحد منهم الي رفيقه أو جاره عن شؤونه وعما اشتري وباع.
وفجأة، سُمعت دقات طبل صادرة من الفناء، فأسرع من في المطعم الي النوافذ والأبواب، وأفواههم ممتلئة، والفوط ما زالت بأيديهم، ولم يبق في مكانه إلا قليل منهم لم يعنوا بالأمر، وبعد ان انتهي منادي البلدة من دق طبلته، اخذ يتلو ما يلي بصوت خشن النبرات:
علي الجميع أن يعلموا أنه فقدت صباح اليوم علي طريق بوزفيل فيما بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة، محفظة جيب من الجلد، سوداء اللون، بها خمسمائة فرنك وبعض الأوراق. فعلي من يجدها ان يسارع الي ردها دون إبطاء الي مكتب العمدة، أو الي السيد هولبريك من أهالي مانفيل، ولمن يفعل ذلك جائزة قدرها عشرون فرنكا .
وما كاد المنادي يفرغ من تلاوة هذا البلاغ حتي انصرف من الفناء، ثم سمع دق الطبل مرة أخري صادراً من بعيد، وكان صوت المنادي أقل قوة ووضوحاً في هذه المرة.
وما إن تلاشي الصوت حتي شرع الناس يتكلمون عن الحادث، ويتساءلون هل يرجي أو لا يرجي أن يسترد السيد هولبريك محفظته المفقودة، وكادوا يفرغون من تناول القهوة، عندما ظهر البوليس بباب المطعم وقال يسألهم: هل السيد هوشكورن من أهالي برتييه هنا؟ .
وكان هوشكورن في تلك اللحظة جالساً عن الطرف الآخر من المائدة، فقال رداً علي سؤال الضابط: نعم.. أنا هنا فعاد الضابط يقول: هل لك أن تتفضل يا سيدي هوشكورن فترافقني الي مكتب العمدة؟ إنه يريد ان يتحدث إليك . فاستولي علي الرجل مزيج من الدهشة والقلق، وشرب ما في كأسه الصغيرة من الخمر دفعة واحدة، ثم نهض واتجه نحو الباب، وهو أشد انحناء مما كان في الصباح، إذ كانت الخطوات الأولي التي تعقب كل راحة شاقة بالنسبة إليه بوجه خاص، وكان يردد قائلا وهو يمشي: هأنذا.. هأنذا! .
وكان العمدة هو مسجل العقود ايضاً في هذه الناحية، وهو رجل ضخم الجسم يدل مظهره علي الجد، وتنطق عباراته بالمهابة، وقد جلس في مقعده الوثير في انتظار قدوم السيد هوشكورن فلما دخل عليه هذا الأخير ابتدره قائلا:
- إنك شوهدت في هذا الصباح يا سيد هوشكورن وأنت تلتقط - علي طريق بوزفيل - المحفظة التي فقدها السيد هولبريك من أهالي بلدة مانفيل..
فذهل الرجل، وشخص ببصره الي العمدة، وقد أفزعته الشبهة التي اتجهت اليه فجأة وعلي غير انتظار، دون ان يعرف سبباً لذلك. ومرت لحظة من الصمت الرهيب قبل أن يقول بصوت مبحوح:
- أنا؟.. أنا التقطت محفظة؟!.
- نعم. أنت نفسك.
- أقسم لك بشرفي أني لا أعلم شيئاً عن ذلك!.
- ولكنك شوهدت!
- أنا شوهدت يا سيدي العمدة؟ أنا؟ من ذا الذي يقول إنه رآني؟
- السيد مالاندان صانع السروج.
وما كاد الرجل يسمع هذا من العمدة حتي تذكر حادث الصباح، وأدرك كل شيء، فصاح قائلاً وقد أحمر وجهه من الغضب:
- آه!.. رآني ألتقط هذا الحبل.. انظر، هذا هو يا سيدي العمدة!.
ودس الرجل يده في جيبه، وبحث فيها لحظة، ثم أخرج منها قطعة الحبل. غير ان العمدة لم يصدق كلامه وإنما هز رأسه وهو يقول:
- إنك لن تجعلني أصدق يا سيد هوشكورن أن السيد مالاندان وهو رجل جدير بالثقة، قد حسب ان هذا الحبل محفظة!.
فرفع الرجل يده وهو يكاد يتمزق من الغيظ، وقال في صوت متهدج النبرات:
- هذه هي الحقيقة، علم الله، يا سيدي العمدة، وأنا أكررها، والله علي ما أقول شهيد!.
فاستأنف العمدة كلامه قائلا:
- وبعد أن التقطت ما وجدت، لبثت لحظة طويلة تبحث في الوحل، لتري ما إذا كانت اية قطعة من النقود قد سقطت من المحفظة!.
وما إن وصل العمدة في حديثه الي هذا الحد، حتي كاد الرجل يختنق من الغيظ والخوف، وقال في اضطراب بالغ:
- كيف يستطيع امرؤ أن يقول.. مثل هذه الأكاذيب ليسيء الي سمعة رجل شريف؟
كيف يستطيع امرؤ أن يقول..
غير ان احتجاجات السيد هوشكورن قد ذهبت كلها هباء، ولم يصدق كلامه أحد.. وواجهه العمدة بالسيد مالاندان فأعاد ما سبق ان قاله من قبل، وتبادل الرجلان الشتائم بعض الوقت، ثم طلب السيد هوشكورن أن يفتشوه فلم يجدوا معه شيئاً.
واستبدت الحيرة بالعمدة أخيراً، فصرف الرجل من عنده بعد أن أنذره بأنه سوف يستشير وكيل النيابة فيما يجب اتخاذه من اجراءات.
وذاع الخبر في أرجاء المدينة، فلم يكد الرجل يغادر مكتب العمدة حتي أقبل الناس عليه وأحاطوا به من كل جانب، ثم أخذوا يلحون عليه بسيل من أسئلتهم المستطلعة، جادين أو ساخرين، فأنشأ يقص عليهم قصة الحبل، فما صدقه أحد منهم، وإنما ضحك منه الجميع مستهزئين!.
ومضي السيد هوشكورن في طريقه، وجعل يستوقف كل من يصادفه من أصدقائه ومعارفه، ويقص عليهم القصة في حديث طويل لا نهاية له، ويروي علي أسماعهم ما ساقه من الاحتجاجات، وهو يقلب جيوبه أمامهم بطناً لظهر، كي يبرهن لهم علي أنها خالية تماماً، فكانوا لا يصدقونه، ويقولون له: اذهب أيها الماكر! فأغضبه ذلك، واشتد غيظه وتضاعف حزنه. وأحس بأن قلبه يوشك أن ينفجر! ولم يدر ماذا يفعل.
وأقبل الليل، وكان علي هوشكورن أن يعود الي برتييه فسار في طريقه إليها مع ثلاثة من جيرانه، فأراهم المكان الذي كان قد التقط فيه قطعة الحبل، ولم يتحدث بغير ذلك طول الطريق. وفي اليوم التالي، قام بجولة في أرجاء بلدة برتييه ليقص علي أهلها قصته، ولكن ما من أحد صدق روايته، فما إن جن عليه الليل حتي كان المرض قد ألم به.
وفي نحو الساعة الواحدة بعد ظهر اليوم التالي، أعاد المحفظة بما فيها ماريوس بوميل - وهو أجير عند السيد بريتون المزارع ببلدة إيموفبيل - الي السيد هولبريك زاعماً أنه وجدها في الطريق. ولما كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، فقد حملها معه الي البيت وأعطاها لسيده.
وذاع الخبر في الناحية حتي بلغ السيد هوشكورن فبدأ الطواف من فوره، وأخذ يعيد سرد قصته التي كتب له فيها النصر. وكان يقول: إن ما ساءني وآلمني لم يكن اتهامي زوراً بالسرقة، وإنما كان الكذب، فليس ثمة ما هو أسوأ من أن يتهم المرء كذباً! .
وهكذا ظل هوشكورن يلهج بالحادث طول يومه، فكان يقصه علي المارة في الطريق، وعلي رواد الحانة، والخارجين من الكنيسة في يوم الأحد التالي، بل لقد كان يستوقف الغرباء ليحدثهم به. وهدأت نفسه أخيراً، لكن شيئاً ما يظل مع ذلك يشغل باله ويضايقه، شيئاً غامضاً كان يحسه، ولكنه لا يدري ما هو علي التحديد!.
فقد كان يبدو له أن الناس كأنهم يمزحون وهم ينصتون إليه، ولم يكن في مظهرهم ما يدل علي أنهم مقتنعون بما يقول، بل لقد كان يخيل إليه أنهم كانوا يتهامسون بشيء فيما بينهم اذا ما أدار لهم ظهره!.
وفي يوم الثلاثاء من الأسبوع التالي، توجه هوشكورن الي السوق في جودرفيل يدفعه شعوره بضرورة سرد موضوعه، وكان مالاندان واقفاً ببابه عندما مر به هوشكورن فما ان وقع بصره علي هذا الأخير حتي أخذ يضحك!.. واقترب من فلاح من قرية كريكتو ، فلم يدعه هذا يتم حديثه، وإنما غمزه بإبهامه في بطنه وهو يقول له في وجهه: اذهب، اذهب أيها الماكر الكبير! ثم استدار علي عقبيه ومضي في سبيله!.
واستبدت الحيرة بالسيد هوشكورن واستولي عليه مزيد من القلق وهو يفكر في الأمر. فلماذا يقولون له أنه ماكر كبير!..
ولم يكد المسكين يجلس الي المائدة بمطعم جوردان حتي شرع يشرح الأمر لمن حوله، فقال له أحد تجار الخيل:
- مهلاً، مهلاً أيها النشال القديم! هذه حيلة عتيقة، وأنا أعرف كل شيء عن قطعة الحبل هذه!!.
- ولكن المحفظة قد وجدت وأعيدت الي صاحبها؟!.
فعاد التاجر يقول في صوت لنبراته مغزي خاص:
- صمتا، صمتاً يا والدي. ان هناك واحداً يجد الشيء، وهناك آخر يبلغ، فهذا شيء من السهل تدبيره، أليس كذلك؟
فانتفض هوشكورن واقفاً وهو يوشك ان يختنق من الغيظ، وقد أدرك من فوره كل شيء، إذ فهم أنهم يتهمونه بأنه دفع بالمحفظة الي شريك له ليردها الي صاحبها! فحاول أن يتنصل من هذه التهمة الباطلة، ولكن الناس من حوله بدأوا يضحكون!
ولم يستطع المسكين ان يتم طعامه فبادر بالإنصراف من المطعم، مشيعاً بإيماءات الهزء وضحكات السخرية، وعاد الي بيته وقد استبد به الحزن والغضب وعصفت بفؤاده الحيرة. وزاده أسفاً وكآبة علمه بأنه كان، بفضل دهائه النورماندي الأصيل، قادراً علي ما اتهموه به، بل علي أكثر منه!.. وبدا له أنه قد أصبح من المحال الآن بالنسبة له أن يثبت براءته، نظراً لأن دهاءه معروف للجميع فأخذته رجفة قاسية، واعتصر قلبه ما في التهمة من ظلم غاشم!.
وهكذا أخذ هوشكورن يروي الحادث مرة بعد مرة، ويزيد في كل يوم إسهاباً فيه ويصطنع أسباباً جديدة يضيفها الي حججه السابقة ويقسم ايماناً أخري غليظة. واستغرقت قصة الحبل كل تفكيره واهتمامه، غير ان تكذيب الناس له يشتد كلما أفاض في الدفاع عن نفسه.
وأحس المسكين بهذا كله، واشتدت وطأته عليه، وأخذ الغيظ والغم ينهشان قلبه، ومع هذا فقد استمر في اضناء نفسه علي غير طائل، حتي هزل وذوي تحت سمع الناس وبصرهم، وأخذ العابثون والماجنون يدعونه الي ان يقص عليهم قصة الحبل، لا لشيء إلا ليلهوا بها ويسلوا أنفسهم، حتي اذا ما فعل عادوا يطلبون إليه أن يعيد عليهم القصص، تماماً كما يطلبون إلي الجندي ان يحدثهم عن المعارك، التي خاض غمارها، فضعف عقله من فرط تأثره، وما إن أشرف شهر ديسمبر علي نهايته حتي اختلط عقله واشتد به المرض فلزم الفراش.
مات هوشكورن في أوائل شهر يناير، وسمُع، وهو في سكرة الموت وساعة الاحتضار، يهذي ببراءته ويكرر قائلاً بصوت كأنه آتٍ من عالم آخر: قطعة حبل!... قطعة حبل!.. أنظر، هذه هي يا سيدي العمدة! .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ابو زاير




المساهمات : 11
تاريخ التسجيل : 01/06/2008

الحبل Empty
مُساهمةموضوع: رد: الحبل   الحبل Icon_minitimeالإثنين يونيو 02, 2008 10:24 pm

اشكرك على الموضوع الرائع جدا

تحياتي ابو زاير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الحبل
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
موكب عبد الله الرضيع  :: موكب اللغة :: موكب الروايات والقصص-
انتقل الى: